فرنسا الثابت الأبرز فى دولة ما بعد الاستقلال
يحتفل الموريتانيون اليوم الأحد بالذكرى الخمسين لعيد الاستقلال الوطني، فتعم الفرحة الجميع بذكرى تحرير موريتانيا من الاحتلال الفرنسي الذي دام أكثر من نصف قرن، وتردد الأناشيد المعلنة لاستقلال موريتانيا والمكبرة لشأن المقاومين الذين مرغوا أنوف المحتلين وجعلوهم يدرجون موريتانيا في قائمة المناطق المرشحة لنيل الاستقلال بعد أن كانت إرسالياتهم تراهن لسنوات عديدة على أن الأرض السائبة طيعة، ومستمرة في قبولها باستعمار السيد الأبيض.
تلك هي "المعاني التربوية" التي نريد عادة أن نقدمها للأجيال، ومع أن فيها شيئا من الحقيقة لكن جزء آخر وربما أكبر من الحقيقة غائب عنها ففرنسا هذه التي نحتفل اليوم بنصف قرن على رحيلها لم ترحل في واقع الأمر قط عن موريتانيا بل ظلت دائما هي الثابت الأبرز في دولة ما بعد الاستقلال، إنها بالفعل كما يقول أحد المعلقين خرجت من النافذة وعادت من الباب الواسع.
نفوذ في العمق..
لقد هيأ الفرنسيون جيدا مرحلة ما بعد الاستقلال وخططوا مليا للطريقة التي تضمن لهم أن يظلوا أسياد المشهد السياسي الموريتاني بشكل لا يثير الكثير من اللغط وبالفعل فقد كان لهم – في الكثير من الحالات- ما أرادوا وربما أكثر فالرئيس الذي حكم موريتانيا أول مرة كان من ضمن نخبة وطنية رعاها الفرنسيون وارتبطوا معها ارتباطات وثيقة مكنتهم من الإمساك بعصب الاقتصاد الوطني، وحين أراد هذا الجيل المؤسس تجاوز النفوذ الفرنسي بدأ الفرنسيون في تحضير مرحلة ما بعد المختار ولد داداه، وتقول المعلومات التاريخية المتوفرة اليوم إنهم لم يكونوا بعيدين من أغلب الانقلابات التي عرفتها موريتانيا خلال عقدي السبعينات والثمانينات، وكانت القاعدة دائما كما يقول متابعون لملف العلاقات الموريتانية الفرنسية إنهم يسعون مع كل حاكم جديد إلى تحقيق أكبر عدد ممكن من المكاسب حتى إذا أخذ في التمنع على بعض مطالبهم رفعوا عنه الغطاء وشرعوا في تحضير الحاكم اللاحق.
مثال صارخ..
ولعل خير مثال على طريقة تعاطي الفرنسيين مع الحكام الموريتانيين هو تجربتهم مع الرئيس الأسبق محمد خونه ولدهيداله الذي وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري خطط له الفرنسيون، وأشرفوا على تنفيذه من خلال دعوة الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا ميتران" له لدعوة قمة إفريقية ببوجامبورا، ليتم الانقلاب في غيابه، وبالطريقة نفسها تخلص الفرنسيون من ولد الطايع بعد عشرين سنة حين أغرته دوائر مقربة منهم بضرورة السفر إلى العربية السعودية لحضور تشييع جثمان الملك فهد بن عبدالعزيز ليتم الانقلاب عليه في غيابه ويتسلم الحكم رجال جدد أكثر قدرة على حماية المصالح الفرنسية في هذه المرحلة.
وبين التاريخين عرفت العلاقات الموريتانية الفرنسية تطورات كبيرة فقد أوقف ولد الطايع التوجهات الإسلامية التي كان هيدالة قد بدأها وأعاد الاعتبار للنفوذ الثقافي الفرنسي، وظلت علاقات البلدين على أحسن ما يرام إلى أن شعر الفرنسيون بأن النظام بدأ يواجه مشكلات بنيوية فبدأت مرحلة التحضير للحكم اللاحق وهي المرحلة التي رد عليها ولد الطايع بالتوجه إلى واشنطن عبر البوابة الصهيونية، لتكون نهايته بعد ذلك على يد "جيل جديد" من رجال فرنسا.
إن هذا الحديث عن قوة النفوذ الفرنسي في موريتانيا لا يعني أن كل حكام موريتانيا عملاء لفرنسا أولا روح وطنية لديهم فالواقع أن، من بينهم وطنييون وارتباطهم بالسيد الفرنسي ليس بالضرورة عمالة بقدر ما هو تبعية مركبة فيها الثقافي والاقتصادي والعاطفي حتى فقد نجح الاستعمار الفرنسي أن يترك في كل البلدان التي احتلها قطاعات واسعة من النخبة المفتتنة بالنموذج الفرنسي والمعلقة قلوبها بعاصمة العطور والأنوار.
استعمار جديد..
ومع كل الصيرورة التي طبعت تاريخ علاقات موريتانيا بفرنسا فإن المراقبين يجمعون اليوم على أن هذه العلاقات دخلت عصرا غير مسبوق مع حكم الرئيس الجديد محمد ولد عبد العزبز، فهاهي الشركات الفرنسية تحكم هيمنتها على السوق الموريتاني، وتلك هي القرائن متضافرة على أن قواعد عسكرية – بمسميات مختلفة- في طور الإنشاء في الشمال الموريتاني حيث يستثمر عملاق النفط الفرنسي أموالا طائلة في حوض تاودني الغني بالنفط والغاز.
وقد شهدت الأشهر الأخيرة تطورات متلاحقة تثبت متانة العلاقة بين فرنسا اليوم وحكام نواكشوط الجدد فقد زار قائد الجيوش الفرنسية موريتانيا لأول مرة، ونفذت عملية عسكرية فرنسية موريتانية مشتركة فى شمال مالى لتحرير الرهينة الفرنسي ميشال جرمانو، انتهت بمقتل العجوز الفرنسي لكنها كشفت عن أي مدى وصل التعاون الموريتاني الفرنسي.
وترجع متانة العلاقة بين باريس ونواكشوط حاليا إلى الدور الفرنسي الحاسم في تشريع انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي قوبل برفض دولي ووطني غير مسبوق، استطاعت باريس بعد أن أخذت تنازلات إستراتيجية فيما يبدو أن تحتويه في مسار مدروس سمح "للجنرال الانقلابي " بالتحول في وقت وجيز إلى رئيس منتخب بموافقة المجموعة الدولية والقوى المحلية المعارضة، ولايستعبد بعض المراقبين أن يكون فرنسا دور حتى فى التحولات الداخلية الجارية حاليا داخل صفوف المعارضة بل إن هناك من يرى أن تزامن تحول موقف رجل مثل أحمد ولد داداه مع العملية العسكرية الفرنسية الموريتانية فى الشمال المالي ليس مجرد صدفة بل إن الأيادي الفرنسي ليست بعيدة من ذلك.
وتذهب بعض المصادر الصحفية الفرنسية إلى القول إن الفرنسيين كانوا حاضرين في مراحل التحضير الأولى للإطاحة بنظام ولد الشيخ عبد الله، وذلك بعد أن وصلتهم تقارير أمنية من جهات "وطنية صديقة" تنصح بالتخلص من الرجل الذي بدأ مسار مصالحة وطنية شاملة كان يمكن أن يؤسس لنظام ديمقراطي قوي لا مكان فيه لعمليات ما تحت الطاولة التي اعتادت مجموعات المصالح الفرنسية أن تدير بها العلاقة مع حكام القارة السمراء.
هكذا إذا ضمنت فرنسا لنفسها نفوذا قويا في دولة ما بعد الاستقلال ربما يضاهي إن لم يكن يفوق ما كانت تريد تحقيقه من خلال الاحتلال المباشر، وهو ما يجعل من المشروع التساؤل هل حقا استقلت موريتانيا عن فرنسا في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1960؟
يحتفل الموريتانيون اليوم الأحد بالذكرى الخمسين لعيد الاستقلال الوطني، فتعم الفرحة الجميع بذكرى تحرير موريتانيا من الاحتلال الفرنسي الذي دام أكثر من نصف قرن، وتردد الأناشيد المعلنة لاستقلال موريتانيا والمكبرة لشأن المقاومين الذين مرغوا أنوف المحتلين وجعلوهم يدرجون موريتانيا في قائمة المناطق المرشحة لنيل الاستقلال بعد أن كانت إرسالياتهم تراهن لسنوات عديدة على أن الأرض السائبة طيعة، ومستمرة في قبولها باستعمار السيد الأبيض.
تلك هي "المعاني التربوية" التي نريد عادة أن نقدمها للأجيال، ومع أن فيها شيئا من الحقيقة لكن جزء آخر وربما أكبر من الحقيقة غائب عنها ففرنسا هذه التي نحتفل اليوم بنصف قرن على رحيلها لم ترحل في واقع الأمر قط عن موريتانيا بل ظلت دائما هي الثابت الأبرز في دولة ما بعد الاستقلال، إنها بالفعل كما يقول أحد المعلقين خرجت من النافذة وعادت من الباب الواسع.
نفوذ في العمق..
لقد هيأ الفرنسيون جيدا مرحلة ما بعد الاستقلال وخططوا مليا للطريقة التي تضمن لهم أن يظلوا أسياد المشهد السياسي الموريتاني بشكل لا يثير الكثير من اللغط وبالفعل فقد كان لهم – في الكثير من الحالات- ما أرادوا وربما أكثر فالرئيس الذي حكم موريتانيا أول مرة كان من ضمن نخبة وطنية رعاها الفرنسيون وارتبطوا معها ارتباطات وثيقة مكنتهم من الإمساك بعصب الاقتصاد الوطني، وحين أراد هذا الجيل المؤسس تجاوز النفوذ الفرنسي بدأ الفرنسيون في تحضير مرحلة ما بعد المختار ولد داداه، وتقول المعلومات التاريخية المتوفرة اليوم إنهم لم يكونوا بعيدين من أغلب الانقلابات التي عرفتها موريتانيا خلال عقدي السبعينات والثمانينات، وكانت القاعدة دائما كما يقول متابعون لملف العلاقات الموريتانية الفرنسية إنهم يسعون مع كل حاكم جديد إلى تحقيق أكبر عدد ممكن من المكاسب حتى إذا أخذ في التمنع على بعض مطالبهم رفعوا عنه الغطاء وشرعوا في تحضير الحاكم اللاحق.
مثال صارخ..
ولعل خير مثال على طريقة تعاطي الفرنسيين مع الحكام الموريتانيين هو تجربتهم مع الرئيس الأسبق محمد خونه ولدهيداله الذي وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري خطط له الفرنسيون، وأشرفوا على تنفيذه من خلال دعوة الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا ميتران" له لدعوة قمة إفريقية ببوجامبورا، ليتم الانقلاب في غيابه، وبالطريقة نفسها تخلص الفرنسيون من ولد الطايع بعد عشرين سنة حين أغرته دوائر مقربة منهم بضرورة السفر إلى العربية السعودية لحضور تشييع جثمان الملك فهد بن عبدالعزيز ليتم الانقلاب عليه في غيابه ويتسلم الحكم رجال جدد أكثر قدرة على حماية المصالح الفرنسية في هذه المرحلة.
وبين التاريخين عرفت العلاقات الموريتانية الفرنسية تطورات كبيرة فقد أوقف ولد الطايع التوجهات الإسلامية التي كان هيدالة قد بدأها وأعاد الاعتبار للنفوذ الثقافي الفرنسي، وظلت علاقات البلدين على أحسن ما يرام إلى أن شعر الفرنسيون بأن النظام بدأ يواجه مشكلات بنيوية فبدأت مرحلة التحضير للحكم اللاحق وهي المرحلة التي رد عليها ولد الطايع بالتوجه إلى واشنطن عبر البوابة الصهيونية، لتكون نهايته بعد ذلك على يد "جيل جديد" من رجال فرنسا.
إن هذا الحديث عن قوة النفوذ الفرنسي في موريتانيا لا يعني أن كل حكام موريتانيا عملاء لفرنسا أولا روح وطنية لديهم فالواقع أن، من بينهم وطنييون وارتباطهم بالسيد الفرنسي ليس بالضرورة عمالة بقدر ما هو تبعية مركبة فيها الثقافي والاقتصادي والعاطفي حتى فقد نجح الاستعمار الفرنسي أن يترك في كل البلدان التي احتلها قطاعات واسعة من النخبة المفتتنة بالنموذج الفرنسي والمعلقة قلوبها بعاصمة العطور والأنوار.
استعمار جديد..
ومع كل الصيرورة التي طبعت تاريخ علاقات موريتانيا بفرنسا فإن المراقبين يجمعون اليوم على أن هذه العلاقات دخلت عصرا غير مسبوق مع حكم الرئيس الجديد محمد ولد عبد العزبز، فهاهي الشركات الفرنسية تحكم هيمنتها على السوق الموريتاني، وتلك هي القرائن متضافرة على أن قواعد عسكرية – بمسميات مختلفة- في طور الإنشاء في الشمال الموريتاني حيث يستثمر عملاق النفط الفرنسي أموالا طائلة في حوض تاودني الغني بالنفط والغاز.
وقد شهدت الأشهر الأخيرة تطورات متلاحقة تثبت متانة العلاقة بين فرنسا اليوم وحكام نواكشوط الجدد فقد زار قائد الجيوش الفرنسية موريتانيا لأول مرة، ونفذت عملية عسكرية فرنسية موريتانية مشتركة فى شمال مالى لتحرير الرهينة الفرنسي ميشال جرمانو، انتهت بمقتل العجوز الفرنسي لكنها كشفت عن أي مدى وصل التعاون الموريتاني الفرنسي.
وترجع متانة العلاقة بين باريس ونواكشوط حاليا إلى الدور الفرنسي الحاسم في تشريع انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي قوبل برفض دولي ووطني غير مسبوق، استطاعت باريس بعد أن أخذت تنازلات إستراتيجية فيما يبدو أن تحتويه في مسار مدروس سمح "للجنرال الانقلابي " بالتحول في وقت وجيز إلى رئيس منتخب بموافقة المجموعة الدولية والقوى المحلية المعارضة، ولايستعبد بعض المراقبين أن يكون فرنسا دور حتى فى التحولات الداخلية الجارية حاليا داخل صفوف المعارضة بل إن هناك من يرى أن تزامن تحول موقف رجل مثل أحمد ولد داداه مع العملية العسكرية الفرنسية الموريتانية فى الشمال المالي ليس مجرد صدفة بل إن الأيادي الفرنسي ليست بعيدة من ذلك.
وتذهب بعض المصادر الصحفية الفرنسية إلى القول إن الفرنسيين كانوا حاضرين في مراحل التحضير الأولى للإطاحة بنظام ولد الشيخ عبد الله، وذلك بعد أن وصلتهم تقارير أمنية من جهات "وطنية صديقة" تنصح بالتخلص من الرجل الذي بدأ مسار مصالحة وطنية شاملة كان يمكن أن يؤسس لنظام ديمقراطي قوي لا مكان فيه لعمليات ما تحت الطاولة التي اعتادت مجموعات المصالح الفرنسية أن تدير بها العلاقة مع حكام القارة السمراء.
هكذا إذا ضمنت فرنسا لنفسها نفوذا قويا في دولة ما بعد الاستقلال ربما يضاهي إن لم يكن يفوق ما كانت تريد تحقيقه من خلال الاحتلال المباشر، وهو ما يجعل من المشروع التساؤل هل حقا استقلت موريتانيا عن فرنسا في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1960؟
عن موقع السراج الاخباري